الاستثمار في رأس المال البشري
نتناول في هذا الموضوع تسليط الضوء على الدور الذي يلعبه الاستثمار في التنمية البشرية و تطوير الكفاءات البشرية، والذي يعتبر كخيار استراتيجي في تنمية وتطوير قدرات ومهارات ومواهب البشر في مجال الصحة، والتعليم والتمويل لضمان تكافؤ الفرص، ومعالجة مشكلة عدم المساواة وتعزيز مستوى الإنتاجية .
لقد استثمرت الحكومات طويلا لتحقيق النمو الاقتصادي عن طريق التركيز على رأس المال المادي كالطرق والجسور والمطارات وغير ذلك من البنى التحتية، لكنها غالبا ما تستثمر بدرجة أقل في مواطنيها، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن الفوائد أبطأ كثيرا في تحققها وأصعب كثيرا في قياسها.
ويعتبر رأس المال البشري مهم للبشر والاقتصاد والاستقرار العالمي ، وهو مهم عبر الأجيال، فعندما تخفق البلدان في الاستثمار بصورة مثمرة في رأس المال البشري، تكون التكلفة ضخمة خاصة للأشد فقرا وتضع هذه التكاليف الأجيال الجديدة في مأزق. ومع التقدم التكنولوجي الذي يولي اهتماما كبيرا بالمهارات العليا، فإن فشل البلدان في تمهيد الطريق أمام مواطنيها ليعيشوا حياة منتجة لن يفضي إلى تكاليف عالية فحسب، بل من المرجح أن يولد المزيد من التفاوتات، كما أنه سيعرض الأمن للخطر لأن عدم تلبية التطلعات يمكن أن يؤدي إلى الاضطرابات.
ويسعى مشروع رأس المال البشري إلى زيادة الوعي وزيادة الطلب على التدخلات لبناء رأس المال البشري وهو يهدف إلى تسريع استثمارات أفضل وأكثر في الناس.
يعد العنصر البشري من أهم العناصر الإنتاجية التي يمكن أن تساهم في تحقيق التنمية، فلن يؤدي هذا العنصر دوره بدون تعليم حيث يسهم الأخير في تراكم رأس المال البشري.
1/ الموارد البشرية: إن الموارد الاقتصادية بطبيعتها تنقسم إلى الموارد الغير بشرية من طبيعة وأرض ورأس مال، والموارد البشرية التي تتمثل في العنصر الإنساني القادر على الإنتاج.
إن الموارد البشرية تعتبر عوامل إنتاج أو وسائل إيجابية من شأن تجميع الأموال واستغلال الموارد الطبيعية وإنشاء الهيئات بمختلف أنواعها لدفع عجلة التنمية إلى الأمام.
والدارس لاقتصاديات الموارد البشرية يدرك كم هي معقدة هذه الاقتصاديات لكون الطبيعة البشرية في حد ذاتها معقدة . فمن ناحية يمكن النظر للموارد البشرية كما ونوعا كأحد دعائم الإنتاج في المجتمع، نجد أن عدد سكان العالم (2017) هو 7.5 مليار نسمة يمثل 15% منهم سكان دول العالم المتقدم، بينما 85% من دول العالم الثالث، ويحظى 15% من سكان العالم بمعدل 55% من الناتج المحلي الإجمالي بينما يبقى 45% لـ 84%، هذا وتقوم الأقلية المتقدمة بالاستحواذ على 72% من صادرات العالم من السلع والخدمات بينما لا تزيد صادرات الغالبية النامية عن %28، إن هذا التفاوت يظهر فجوة واضحة لابد من التدقيق في أسبابها ، ومن ناحية أخرى إن الموارد البشرية التي تمثل العنصر الاستهلاكي تمثل أيضا العنصر الإنتاجي الرئيسي في المجتمع ذاته. أي أن الفرد المستهلك الذي يهتم المجتمع بتحقيق رفاهيته الاقتصادية وتوفير احتياجاته المختلفة هو نفسه الفرد القادر على إنتاج تلك السلع والخدمات الكفيلة بتحقيق الحاجات الإنسانية ومن ثم تحقيق الرفاه الاقتصادي، فإذا ما كان المجتمع استهلاكي أكثر منه إنتاجي ظهرت فجوة أخرى أكثر خطورة تقوده إلى حلقات ودوائر مغلقة من الفقر والتخلف .
أولا: الحلقة المفرغة Vicious Cycle هي حلقة أو دائرة تنشأ نتاج انخفاض في مستوى الدخل من شأنه انخفاض الاستهلاك ونقص الادخار مما يؤدي إلى نقص الاستثمار ومن ثم نقص في الإنتاجية، فالانخفاض في الدخل وهكذا، الأمر الذي يجعل المجتمع يدور ضمن حلقة مفرغة من الفقر والتخلف، ولكي نتمكن من كسر الدائرة المفرغة للفقر يتعين تعبئة المدخرات وتوجيه الاستثمارات.
ثانيا: إن الزيادة السكانية كانت ولا تزال إحدى المشكلات الاقتصادية المطروحة للنقاش والتي تعاني الكثير من الدول من عواقبها ، وقامت الكثير من النظريات الاقتصادية السكانية التي تحذر من الزيادة السكانية وآثارها السلبية بل والمرعبة في بعض النظريات. إن تجربة دول ككوريا والصين واليابان تظهر أن الزيادة السكانية لم تكن أبدا عائقا يواجه التنمية بقدر ما هو مساعدا لها، وبفضل تركيز هذه الدول على العنصر البشري كان لها المكان العالمي الذي تحتله اليوم، فالصين هي أكثر دول العالم كثافة من حيث عدد السكان 1381 مليون نسمة ثم تليها الهند 1347 مليون، فالولايات المتحدة 327 مليون، ثم إندونيسيا، اليابان.
2/ تنمية الموارد البشرية والاستثمار في رأس المال البشري : يتعين علينا هنا أن نفرق بين مفهوم تنمية الموارد البشرية ومفهوم استثمار رأس المال البشري، حيث يتمثل الأول في توفير احتياجات الأفراد وتلبية احتياجاتها والاهتمام بها من وجهة نظر اجتماعية شاملة.
أما الاستثمار في رأس المال البشري فيعني تخصيص الإنفاق على الأفراد من القوة العاملة بما يحقق عائدا اقتصاديا يتمثل في الناتج الحدي الذي يضيفه العنصر البشري للإنتاج. نريد هنا توجيه الاستثمارات بما يحقق التنمية البشرية المستدامة التي تحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية مع خلق البيئة المناسبة التي تمكن من العطاء والانجاز وتحقيق أقصى إنتاجية حدية ممكنة بما يعود بالنفع الاقتصادي على الفرد والمجتمع.
لقد أصبح الاستثمار في الدول المتقدمة في رأس المال البشري بجميع أنواعه أكبر من الاستثمار في رأس المال المادي، الأمر الذي أوجد القاعدة الضرورية لبناء ما يعرف اليوم بالاقتصاد المعرفي أو التكنولوجي.
إن الاهتمام بالعنصر البشري وتنميته أصبح واجبا قوميا ملحا والاستثمار فيه كغيره من نواحي الاستثمار في حاجة دائمة إلى الدعم والتخطيط والمتابعة وبأسلوب علمي سليم.
رغم أن الاستثمار في رأس المال البشري ليس المقصود به وضع سعر أو ثمن للفرد أو العنصر البشري إنما هو أهم ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية ويعني استخدام الأنشطة المختلفة التي من شأنها زيادة الإنتاجية أو نوعية العمل ويشمل مجموعة من النواحي الانفاقية من إنفاق على التعليم والتدريب والصحة .
3/ رأس المال البشري: إن التقدم العلمي والتكنولوجي يغير حياة الناس، بل إنه يساعد البلدان الفقيرة على سد الفجوة مع البلدان الغنية في العمر المتوقع عند الميلاد، بيد أن البلدان الفقيرة لا تزال تواجه تحديات هائلة حيث يعاني ربع الأطفال دون سن الخامسة من سوء التغذية، ويفشل 60% من تلاميذ المدارس الابتدائية في الحصول على تعليم ولو أولي. في الواقع، لا يتلقى أكثر من 260 مليون طفل وشاب في البلدان الفقيرة أي قدر من التعليم على الإطلاق. وهناك مبرر أخلاقي يجب أن نسوقه، بالطبع للاستثمار في الصحة والتعليم للناس كافة، لكن هناك مبررا اقتصاديا أيضا وهو أن نكون مستعدين للمنافسة والازدهار في بيئة سريعة التغير.
إن "رأس المال البشري" وإمكانيات الأفراد سيكون الاستثمار الأهم على المدى الطويل الذي يمكن لأي بلد تحقيقه من أجل ازدهار شعبه ورفع نوعية حياته مستقبلا. لقد استثمرت الحكومات طويلا لتحقيق النمو الاقتصادي عن طريق التركيز على رأس المال المادي كالطرق والجسور والمطارات وغير ذلك من البنى التحتية ، لكنها غالبا ما تستثمر بدرجة أقل في مواطنيها.
4- التعليم والتدريب: إن التعليم والتدريب المستمر في عصرنا اليوم "عصر العلم والمعلومات" قد اختلف مفهومه وزادت أهميته والحاجة إليه ، أنه استثمار يعود بقيمة مضافة عالية على الاقتصاد القومي من خلال زيادة الإنتاجية للعنصر البشري حيث لا تنحصر فوائد التعليم والتدريب على زيادة الإنتاجية بل هو استثمار على المستوى الفردي حيث يزيد من القيمة الاقتصادية (الأجر) المستقبلي للفرد نتيجة الاستثمار والإنفاق الحالي نتيجة ارتفاع المهارة وبالتالي الخبرة وزيادة الإمكانيات والفرص الوظيفية المتاحة. لذا يلزم اليوم وأكثر من أي وقت مضى السعي قدما لتقدير الاحتياجات التدريبية تمهيدا لإعدادها وتنفيذها، مع ضرورة التنسيق بين مواردنا البشرية والغير بشرية. وعليه نقول بأن ثروة الأمة وغنى الشعب وتحقيق نمو اقتصادي يدعم التنمية المستدامة يتطلب الاستثمار في رأس المال البشري .
تعليقات
إرسال تعليق